أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ * أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
هكذا كان مطلع القصيدة التي نظمها الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني عندما كان أسيرًا لدى الروم، حيث كانت كيوميات عكس فيها معاناته وما لاقاه من حزن وألم وهو منتظرًا تحرك ابن عمه سيف الدولة الحمداني لافتدائه ومساعدته بالخروج من السجن.
كما يعتقد الكثيرون أن قصيدة أراك عصي الدمع تتحدث عن الحب والهُيام، ولكنها في الحقيقة تحكي بطولات الشاعر أبو فراس الحمداني وتفانيه الشديد لابن عمه سيف الدولة، وكذلك فخره بنفسه واشتياقه لأيام الحرية والرغد والفروسية… وكيف لا يحن الطائر الحبيس إلى فضائه الرحب؟
فقد فاح من تلك القصيدة أريج العاطفة الصادقة والحنين إلى الوطن والحبيبة، لذلك تعتبر قصيدة أراك عصي الدمع من أصدق وأروع القصائد الإنسانية التي ترق لها النفس وتطرب لسماعها الآذان لا سيما بعد أن غنتها السيدة أم كلثوم بثلاثة ألحان مختلفة.
كلمات قصيدة أراك عصي الدمع
أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ * أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ * وَلَكِنَّ مِثلي لا يُذاعُ لَهُ سِرُّ
إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى * وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي * إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ
مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ * إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ
حَفِظتُ وَضَيَّعتِ المَوَدَّةَ بَينَنا * وَأَحسَنَ مِن بَعضِ الوَفاءِ لَكِ العُذرُ
وَما هَذِهِ الأَيّامُ إِلّا صَحائِفٌ * لِأَحرُفِها مِن كَفِّ كاتِبِها بَشرُ
بِنَفسي مِنَ الغادينَ في الحَيِّ غادَةً * هَوايَ لَها ذَنبٌ وَبَهجَتُها عُذرُ
تَروغُ إِلى الواشينَ فِيَّ وَإِنَّ لي * لَأُذناً بِها عَن كُلِّ واشِيَةٍ وَقرُ
بَدَوتُ وَأَهلي حاضِرونَ لِأَنَّني * أَرى أَنَّ داراً لَستِ مِن أَهلِها قَفرُ
وَحارَبتُ قَومي في هَواكِ وَإِنَّهُم * وَإِيّايَ لَولا حُبَّكِ الماءُ وَالخَمرُ
فَإِن يَكُ ما قالَ الوُشاةُ وَلَم يَكُن * فَقَد يَهدِمُ الإيمانُ ما شَيَّدَ الكُفرُ
وَفَيتُ وَفي بَعضِ الوَفاءِ مَذَلَّةٌ * لِإِنسانَةٍ في الحَيِّ شيمَتُها الغَدرُ
وَقورٌ وَرَيعانُ الصِبا يَستَفِزُّها * فَتَأرَنُ أَحياناً كَما أَرِنَ المُهرُ
تُسائِلُني مَن أَنتَ وَهيَ عَليمَةٌ * وَهَل بِفَتىً مِثلي عَلى حالِهِ نُكرُ
فَقُلتُ كَما شاءَت وَشاءَ لَها الهَوى * قَتيلُكِ قالَت أَيَّهُم فَهُمُ كُثرُ
فَقُلتُ لَها لَو شِئتِ لَم تَتَعَنَّتي * وَلَم تَسأَلي عَنّي وَعِندَكِ بي خُبرُ
فَقالَت لَقَد أَزرى بِكَ الدَهرُ بَعدَنا * فَقُلتُ مَعاذَ اللَهِ بَل أَنتِ لا الدَهرُ
وَما كانَ لِلأَحزانِ لَولاكِ مَسلَكٌ * إِلى القَلبِ لَكِنَّ الهَوى لِلبِلى جِسرُ
وَتَهلِكُ بَينَ الهَزلِ وَالجَدِّ مُهجَةٌ * إِذا ما عَداها البَينُ عَذَّبَها الهَجرُ
فَأَيقَنتُ أَن لا عِزَّ بَعدي لِعاشِقٍ * وَأَنَّ يَدي مِمّا عَلِقتُ بِهِ صِفرُ
وَقَلَّبتُ أَمري لا أَرى لِيَ راحَةً * إِذا البَينُ أَنساني أَلَحَّ بِيَ الهَجرُ
فَعُدتُ إِلى حُكمِ الزَمانِ وَحُكمِها * لَها الذَنبُ لا تُجزى بِهِ وَلِيَ العُذرُ
كَأَنّي أُنادي دونَ مَيثاءَ ظَبيَةً * عَلى شَرَفٍ ظَمياءَ جَلَّلَها الذُعرُ
تَجَفَّلُ حيناً ثُمَّ تَرنو كَأَنَّها * تُنادي طَلاً بِالوادِ أَعجَزَهُ الخُضرُ
فَلا تُنكِريني يا اِبنَةَ العَمِّ إِنَّهُ * لِيَعرِفُ مَن أَنكَرتِهِ البَدوُ وَالحَضرُ
وَلا تُنكِريني إِنَّني غَيرُ مُنكِرٍ * إِذا زَلَّتِ الأَقدامُ وَاِستُنزِلَ النَصرُ
وَإِنّي لَجَرّارٌ لِكُلِّ كَتيبَةٍ * مُعَوَّدَةٍ أَن لا يُخِلَّ بِها النَصرُ
وَإِنّي لَنَزّالٌ بِكُلِّ مَخوفَةٍ * كَثيرٌ إِلى نُزّالِها النَظَرُ الشَزرُ
فَأَظمَأُ حَتّى تَرتَوي البيضُ وَالقَنا * وَأَسغَبُ حَتّى يَشبَعَ الذِئبُ وَالنَسرُ
وَلا أُصبِحُ الحَيَّ الخَلوفَ بِغارَةٍ * وَلا الجَيشَ مالَم تَأتِهِ قَبلِيَ النُذرُ
وَيارُبَّ دارٍ لَم تَخَفني مَنيعَةٍ * طَلَعتُ عَلَيها بِالرَدى أَنا وَالفَجرُ
وَحَيٍّ رَدَدتُ الخَيلَ حَتّى مَلَكتُهُ * هَزيماً وَرَدَّتني البَراقِعُ وَالخُمرُ
وَساحِبَةِ الأَذيالِ نَحوي لَقيتُها * فَلَم يَلقَها جافي اللِقاءِ وَلا وَعرُ
وَهَبتُ لَها ما حازَهُ الجَيشُ كُلَّهُ * وَرُحتُ وَلَم يُكشَف لِأَبياتِها سِترُ
وَلا راحَ يُطغيني بِأَثوابِهِ الغِنى * وَلا باتَ يَثنيني عَنِ الكَرَمِ الفَقرُ
وَما حاجَتي بِالمالِ أَبغي وُفورَهُ * إِذا لَم أَفِر عِرضي فَلا وَفَرَ الوَفرُ
أَسِرتُ وَما صَحبي بِعُزلٍ لَدى الوَغى * وَلا فَرَسي مُهرٌ وَلا رَبُّهُ غَمرُ
وَلَكِن إِذا حُمَّ القَضاءُ عَلى اِمرِئٍ * فَلَيسَ لَهُ بَرٌّ يَقيهِ وَلا بَحرُ
وَقالَ أُصَيحابي الفِرارُ أَوِ الرَدى * فَقُلتُ هُما أَمرانِ أَحلاهُما مُرُّ
وَلَكِنَّني أَمضي لِما لا يُعيبُني * وَحَسبُكَ مِن أَمرَينِ خَيرَهُما الأَسرُ
يَقولونَ لي بِعتَ السَلامَةَ بِالرَدى * فَقُلتُ أَما وَاللَهِ ما نالَني خُسرُ
وَهَل يَتَجافى عَنِّيَ المَوتُ ساعَةً * إِذا ما تَجافى عَنِّيَ الأَسرُ وَالضَرُّ
هُوَ المَوتُ فَاِختَر ما عَلا لَكَ ذِكرُهُ * فَلَم يَمُتِ الإِنسانُ ماحَيِيَ الذِكرُ
وَلا خَيرَ في دَفعِ الرَدى بِمَذَلَّةٍ * كَما رَدَّها يَوماً بِسَوءَتِهِ عَمروُ
يَمُنّونَ أَن خَلّوا ثِيابي وَإِنَّما * عَلَيَّ ثِيابٌ مِن دِمائِهِمُ حُمرُ
وَقائِمُ سَيفٍ فيهِمُ اندَقَّ نَصلُهُ * وَأَعقابُ رُمحٍ فيهِمُ حُطَّمُ الصَدرُ
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم * وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
فَإِن عِشتُ فَالطَعنُ الَّذي يَعرِفونَهُ * وَتِلكَ القَنا وَالبيضُ وَالضُمَّرُ الشُقرُ
وَإِن مُتُّ فَالإِنسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ * وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِنفَسَحَ العُمرُ
وَلَو سَدَّ غَيري ما سَدَدتُ اِكتَفوا بِهِ * وَما كانَ يَغلو التِبرُ لَو نَفَقَ الصُفرُ
وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا * لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ
تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا * وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ
أَعَزُّ بَني الدُنيا وَأَعلى ذَوي العُلا * وَأَكرَمُ مَن فَوقَ التُرابِ وَلا فَخرُ
نبذة عن حياة الشاعر أبو فراس الحمداني
هو الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الرَّبعي، المكنى بأبو فراس الحمداني، ولد في مدينة الموصل في العراق سنة 320 هـ، واغتيل والده وهو في الثالثة من عمره على يد ابن أخيه، فأخذته أمه وتنقلت به بين بلاد كثيرة حتى استقرت في مدينة منبج السورية التي تقع قُرب حلب، فترعرع ونشأ في كنف ابن عمه وزوج اخته سيف الدولة الحمدانية التي شملت أجزاء من شمالي سوريا والعراق، وكانت عاصمتها حلب في القرن العاشر للميلاد.
نشأ أبو فراس الحمداني وتربى على الشعر والفروسية في بيئة ثقافية خصبة، حتى أصبح شاعرًا وفارسًا مِغوارًا، وأخذ يدافع عن إمارة ابن عمِّه سيف الدولة الحمداني ضد هجمات الروم، وفي أوقات السِّلم كان يشارك في مجالس الأدب لينافس الشعراء آنذاك.
ومن أبرز الشعراء الذين عاصرهم أبو فراس الحمداني هو أبو الطيب المتنبي.
وبعد ذلك ولّاه سيف الدولة مقاطعة منبج فأحسن حكمها والدفاع عنها، ثم وقع في أسر الروم عدة مرات، وعلى إثر هذ الأسر قال عددًا من قصائده الشهيرة المسماة بالروميات، وبعد عدة سنوات افتداه ابن عمه سيف الدولة وحرره من أسره.
بعد وفاة سيف الدولة الحمدانية رفض أبو فراس الحمداني الاستسلام لأوامر ابن اخته ووريث سيف الدولة أبي المعالي، فنشأ خلاف بينهما الذي انتهى باستقلال أبو فراس الحمداني بحمص عن سلطة إمارة حلب، فأرسل إليه أبو المعالي جيشًا لإجباره على الاستسلام، وكان ذلك برأي من مولاه فرغويه، الذي تولى قيادة هذا الجيش وقاومه أبو فراس الحمداني إلى أن قتل، وكان ذلك ببلدة صدَد على الجنوب الشرقي من حمص في ربيع الأول سنة 357هـ – 968 م، مخلفًا وراءه ذكرًا وشعرًا وبطولات حفظها التاريخ عبر الأجيال.
مناسبة قصيدة أراك عصي الدمع
تميز أبو فراس الحمداني عن غيره من جموع الشعراء والمفكرين والعلماء ببراعته في الشعر وشجاعته في ساحات القتال، مما جعل له منزلة رفيعة في نفس سيف الدولة، فولاه إمارة منبج الحدودية ليكون في مواجهة مع الأعداء والتصدي لهجمات الروم، وهذا ما أثار حفيظة الكارهين له في البلاط الحمداني، فأثبت آنذاك أبو فراس الحمداني بطولته وشجاعته في ساحات المعارك والغزوات ضد أعداء الدولة الحمدانية، إلى أن وقع أسيرًا في قبضة الروم هو ومن معه.
وكان خلال فترة أسره يشكو الدهر ويرسل القصائد المليئة بمشاعر الألم والحنين إلى الوطن والحرية، فتتلقاها أمه باللوعة والأسى حتى توفيت قبل عودة وحيدها، أما ابن عمه سيف الدولة فقد التف الكارهون والواشون حوله، وراحوا يوغلون صدره من ابن عمه الأسير، ويخوفونه من طمعه في الحكم نظير صيته في ساحات المعارك، فتجاهل رسائل ونداءات أبو فراس الحمداني وعزم على أن يبقيه وحيدًا في الأسر.
طالت ليالي النفي والأسر على أبو فراس الحمداني، ولم يتوقف عن كتابة القصائد التي امتلأت بمشاعر العتب والحزن على ما آل إليه ونسيان ابن عمّه له في الأسر، وعندما يأس من استجابة سيف الدولة في افتدائه كتب قصيدة كان مطلعها، (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر)، وأثناء قراءة سيف الدولة لهذه القصيدة استشعر عاطفة أبو فراس الحمداني الصادقة، ثم استذكر مآثره وفضله في حماية الدولة التي أنهكتها هجمات الروم المتكررة في غيابه، وعلى الفور قام سيف الدولة بتجهيز جيشًا كبيرًا هاجم فيه الروم وهزمهم وانتصر عليهم وأسر عددًا من جنودهم، واستعاد حلب التي وقعت في أيديهم، ثم أسرع إلى افتداء ابن عمه أبو فراس الحمداني هو ومن معه، وذلك في عام 354 هجري.
شرح قصيدة أراك عصي الدمع
شرح قصيدة أراك عصي الدمع الأبيات 1 – 13
نظمت قصيدة أراك عصي الدمع على بحر الطويل الذي كان مناسبًا لسرد الوقائع والتغنّي بالأمجاد، وقدّم فيها الشاعر صورة ذكريات تبريرية لنفسه العالقة على مشارف المجد، وفيما يأتي شرحها وتوضيحها:
بدأ أبو فراس الحمداني قصيدته بمطلع غزلي كسائر القصائد العربية، لكن هذا الغزل مستوحى من موقفه في الأسر، فقد وصف نفسه بأنّه في حالة من الشوق والبُعد عن المحبوبة، وظهر وكأنما يخاطب نفسه ويقول: أراك صابرًا ومتجلّدًا على حالك حتى أنك تعصي دمعك وتمنعه من النزول، أوليس للحب سلطان عليك؟ فيجيب نفسه: بلى فأنا مشتاقٌ جدًا وفي قلبي حرقة الفراق ولكني سأبقى محافظًا على فروسيتي ورجولتي ومكانتي، ولن أرضى أن يشاع حبي بين الناس، ولكني أبث همي وشكواي وأذرف دموع الحب والحنين عندما يسدل الليل ستاره، حيث لا أحدًا يراني ولا أحدًا يفشي سري.
ثم يستذكر الشاعر محبوبته وأهله ويصف النار التي تكاد أن تشتعل في صدره من شدة شوقه إليهم والتفكير بهم، وبعدها يناجي طيف محبوبته التي وعدته باللقاء ولم توفي بوعدها وبدأ يشعر بأن الموت أقرب له من لقائها، وإذا داهمه الموت ولم ينعم بلقياها فلا رزق الله تعالى الآخرون الحياة من بعده.
كما أكد الشاعر على حبه ووفائه لمحبوبته، في حين ضحت هي في حبه، وضيعت تلك المودة، ولكنه بالرغم من شدة حبه لم يستطع أن يغفر لها عدم وفائها وغدرها، ويقول: أن ما هذه الأيام إلا كتب نكتبها بأيدينا وأفعالنا، ثم نمحو كل ما دونّا فيها. ثم يعاود التغزل مرة أخرى بمحبوبته ويقول: تشتاق نفسي لتلك الفتاة البيضاء الجميلة التي تمر مع الذاهبين فجرًا، وكان حبي لها خطيئة أعذر فيها وذلك لجمالها ونضارتها، فقد تغيرت علي وسمعت كلام الواشين والحاقدين، بينما أنا أعطيهم أذنًا صماء لا أستمع لما يقولونه عنها.
ولشدة حب الشاعر لمحبوبته أقام في البادية حيث تقيم هي، في حين أن أهله مقيمون في الحضر، لأن المكان الذي لا توجد فيه محبوبته كالأرض الجدباء التي لا ماء فيها ولا كلأ، ويقول لها عاديت أهلي من أجل حبك ولولا حبك لتآلفت معهم وامتزجت بهم كما يمتزج الخمر بالماء، فإن نقل لك النمامون عني أكاذيبهم وهدموا حبنا، فالحب الحقيقي يقضي على تلك الترهات كما يقضي الإيمان على الكفر ويزعزعه، ولكنني آسفٌ على حفظ المودة والمحبة وتحملي المذلة من أجل فتاة في الحي من طبعها الغدر وإخلاف الوعد.
شرح قصيدة أراك عصي الدمع الأبيات 14 – 25
يعدد الشاعر بعضًا من صفات محبوبته فيقول: أنها رزينةٌ ثابتةٌ تحركها قوة الشباب وعنفوانه ونشاطه، فنتشط وتمرح كما يمرح المهر الفتي، وتستعلم عني وهي أدرى الناس بي، وهل يُجهل رجلٌ مثل حالي ولا يعرفُ؟ فقلت كما أرادت هي من دلال، أنا قتيل حبك، فقالت أي واحدٌ منهم؟ فالذين يحبونني كثيرون، فقلت لها ليتك لم تعذبي نفسك وتسألي عني وأنت أعلم الناس بأحوالي وأخباري، فقالت لقد أهانك الزمن وأمرضك وأضناك بعد فراقنا، فقلت ما عاذ الله أن يكون الزمن هو الفاعل، بل أنت هو السبب، ولولا عشقك لما كان للأحزان طريقًا إلى قلبي، لكن الحب جسر يودي إلى الهلاك، فالروح تهلك بين جد الحب وهزله، إذا ما تجاوزها الفراق عذبها لوعة الهجران، فعلمت أن لا قوة ولا مجد لمن يعشق بعدي، فأنا على الرغم من قوتي خرجت منه خالي اليدين.
فكرت في أمري فلم أجد راحة، فإذا أنساني الفراق لهيب الحب، ذكرني به ألم الهجران، فرجعت إلى واقع الحال وما أرادت هي، فلها وزر القطيعة والفراق لكنها لا تعاقب عليها، ولي أنا المعذرة في حبي لها، وكأنني في ندائي لمحبوبتي أنادي من أعلى الوادي على غزالة تقف في مكان مرتفع محمرة الشفاه أصابها الخوف والفزع، تنفر حينًا ثم تطيل النظر حينًا آخر، وكأنها تنادي على طفلها الصغير وهو يعجز عن الركض واللحاق بها.
شرح قصيدة أراك عصي الدمع الأبيات 26 – 43
هنا بدأ الشاعر الفخر والاعتزاز بنفسه وببطولاته في المعارك والحروب فيقول لمحبوبته: فلا تدَّعي جهلك بي أيتها المحبوبة، فما من بدو ولا حضر إلا ويعرفني ويعرف مكانتي، فإني معلوم بقوتي وشجاعتي حين تُزلق أقدام الأبطال، ويُطلب النصر في الحروب، وإني لقائد شجاع لكل جيش تعود على ظفر النصر في كل معركة، وإني لكثير النزول في كل أرض يُخاف الدخول بها، وأنظر بغضب واستحقار لكل من ينزل بها خائفًا، فأظمأ لشدة ضربي بالسيوف لترتوي من دماء أعدائي، وأجوع حتى تشبع الوحوش من جثث قتلاهم.
ثم يستمر الشاعر في الاعتزاز بنفسه، إضافةً لذكره لبراعته وأخلاقه الحربيّة وعدم اتباعه لأسلوب الغدر بالعدو، فيقول: أنا لا أنقض على حيٍ خلا من رجاله في الصباح، ولا أقاتل أعدائي في ديارهم حتى أنذرهم بذلك، وكم من منزل حصين لم أخشه، فقد ظهرت عليه بالموت والهلاك والفجر طالعٌ وكل هذا لشجاعتي وبسالتي، ورب حي هجمت بخيلي عليه حتى استوليت عليه مهزومًا ولم يردني عنه سوى النساء التي لم أسبيها ولم أهتك عفتها كما يفعل الباقون، وهناك فتاة جميلة تتبختر لما عليها من نعمة تقبل نحوي بعد النصر، فأكرمتها وأحسنت لقائها، فأعطيتها ما استولى عليه الجيش، ورددت لها أموال الحي كلها ثم تركتها مصونة مكرّمة، فلم يجعلني الغنى ظالمًا مسرفًا في المعاصي، ولم يصرفني الفقر عن الكرم والعطاء، فلا حاجة لي بالمال ولا أطلب ادخاره، فلا كثّره علي الله إن لم أصن عرضي به.
أسرت بيد الأعداء وأصحابي كلهم مسلحون في الحرب، وجوادي مدرب وفارسه رجل مشهور ومعلوم، ولكن إذا نزل قضاء الله وقدره على الإنسان فلا وقاية منه ولا ملجأٌ، وقال أصحابي إما الهروب من المعركة أو القتل والهلاك، فقلت أمران خيرهما كالعلقم، ولكنني أختار ما لا يلحق بي العار فالاستمرار في المعركة والأسر يغنيني عن الفرار أو الهلاك، ومع هذا يلومني أصحابي ويقولون لي أنني أثرت السلامة على الموت في المعركة، فقلت والله ما طالني نقص أو عيب من قراري هذا، أيبتعد عني الموت المقدر لي إذا ابتعد عني الأسر والضر؟
شرح قصيدة أراك عصي الدمع الأبيات 44 – 54
سلكت هذه الأبيات من القصيدة مجرى الحكم، فصار بعضها مثلًا سائرًا بين الناس، وكيف لا ونفسية الشاعر الجياشة بالعاطفة والأحاسيس الرقيقة جعلت الحكم تنساب على لسانه وتجري في كيانه، حيث قال: إن الموت واقع بكل إنسان لا محالة، فاختر لك عملًا مشرفًا يبقي ذكراك بين الأحياء فلا تموت أبدًا، ولا خير في الهرب من الموت بفعل فيه مهانة كما فعل عمرو بن العاص مع علي رضي الله عنهما في المعركة.
للتنبيه:
قصة كشف عمرو بن العاص عورته لينجو من القتل على يد سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنهما باطلة وملفقة ولا أساس لها من الصحة. ثم يكمل الشاعر ويقول: لقد فضَّل عليَّ أعدائي بترك ثيابي على جسدي، وهم لا يعلمون أن ثيابي الحمر ملطخة بدمائهم عندما كنت أغرز سيفي في أجسادهم، ورمحي الذي كسَّر صدورهم.
وفي أواخر أبيات القصيدة يفتخر الشاعر بأمجاده وأمجاد قومه جميعهم، ويقول: سيذكرني قومي في المواقف العصيبة التي يمرون بها كما يتذكر الناس القمر في الليالي المظلمة، فإن كُتبت لي الحياة سيرون شجاعتي وفعالي من طعنٍ بالرمح، وضربٍ بالسيف، وكري على أعدائهم بالخيول المضمَّرة، ولكن مهما عاش الشخص وامتدت به الحياة فإنه لميت، لأن مصير الإنسان هو الموت والفناء، ولو قام مقامي غيري وفعل ما أفعل لكفى قومه وحماهم، لكن لا يستطيع أحدٌ القيام مقامي، فالذهب لا يعوض بالنحاس، فنحن قوم لا نقبل بمقام غيرنا، فإما أن تكون لنا سيادة الناس جميعًا أو الموت، فقد ترخص نفوسنا في طلب عظائم الأمور، كما الذي يطلب فتاة جميلة ويرخص الغالي من أجلها، ونحن قوم دون فخر من أكرم الناس الأحياء وأعلاهم مقامًا وأرفعهم منزلةً بفعالنا وذكرنا.
شرح مفردات قصيدة أراك عصي الدمع
تضمنت قصيدة أراك عصي الدمع عدد من الكلمات الصغيرة ولكنها ذات معانٍ كبيرة وعميقة أبدع الشاعر في توظيفها ضمن الأبيات، واستكمالًا لشرح قصيدة أراك عصي الدمع، سنعرض لكم بعض معاني مفرداتها:
- عصي: شديد البأس قليل الدمع.
- شيمتك: خلقك وسجيتك.
- الهوى: الحب.
- نهي ولا أمر: المراد سلطان.
- لوعة: حرقة الشوق.
- أضواني: ضمني وأضعفني والماضي منه ضوی.
- بسطت: مددت.
- خلائقه: طباعه أو صفاته ومفردها خليقة.
- الكبر: الأنفة.
- جوانحي: جمع جانحة وهي الضلوع.
- أذكتها: أشعلتها.
- الصبابة: شدة الشوق.
- معللتي: تلهيني كالطفل وتعالجني من علتي.
- الوصل: اللقاء.
- دونه: أقرب منه.
- صحائف: كتاب.
- بشرُ: محو.
- الغادين: من يذهبون بين طلوع الفجر وطلوع الشمس.
- غادة: الفتاة الجميلة البيضاء.
- بهجتها: نضارتها.
- تروغ: تميل سرًا.
- وقرٌ: صممٌ.
- بدوت: أقمت في البادية.
- حاضرون: مقيمون في الحضر.
- قفرٌ: أرض لا ناس فيها ولا شجر ولا ماء.
- وقورٌ: رزينة.
- ريعان الصبا: شدته وعنفوانه.
- تأرن: تنشط وتمرح.
- نكرٌ: غير معروف.
- تتعنتي: تتشددي، فالتعنت هو التشدد والمشقة.
- أزرى بك الدهر: غير أحوالك واستهان بك.
- مسلك: طريق.
- البلى: الفناء.
- المهجة: النفس او الروح.
- عداها: تجاوزها.
- البين: البعد والفراق.
- صفرُ: خالية.
- تجزى: تعاقب.
- القطر: المطر.
- ظمآنا: العطش الشديد.
- قفر: هي الأرض الخالية التي لا ماء فيها ولا بشر.
- شيَّد: بنى.
- الوشاة: وهي النميمة والكذب في الكلام.
- أزرى: غيّر أحوالك واستهان بك.
- معاذ الله: أي أعوذ بالله.
- الدهر: الزمن والعُمر الطويل.
- الميثاء: ما اتسع من فوهة الوادي.
- شرف: المقصود مكانًا عاليًا.
- ظمياء: الشفة الذابلة التي بها حمرة.
- جلَّلها: اكتنفها.
- تجفل: تنفر أو تفزغ.
- ترنو: تديم النظر في سكون طرفٍ.
- الطّلا: ابن الظبية.
- الحضرُ: الركض.
- جرارٌ: قائد.
- نزّال: كثير النزول.
- مخوفة: أرض يُخاف النزول فيها.
- النَّظَرُ الشَزرُ: النظر بغضب واستهانه.
- البيض: السيوف.
- القنا: الرمح.
- أسغبُ: أجوع.
- الحيُّ الخلوف: الحي الذي تَغيب رجاله صباحًا.
- غارة: الهجوم.
- الردى: الموت.
- منيعة: حصينة يصعب الاقتراب منها.
- رددت الخيل: كررت بها.
- البراقع: الخمار، وهو ما تستر به المرأة وجهها.
- هزيم: مهزوم.
- ساحبة الأذيال: المرأة الجميلة المتبخترة.
- جافي اللقاء: غلظته، وفظاظته.
- يطغيني: يجعلني ظالمًا.
- يثنيني: يمنعني.
- وفوره: ادخاره.
- وفرَ عرضه: صانه وحفظه.
- الوفر: المال.
- عزلٌ: من لا سلاح معه.
- الوغى: صوت المعركة.
- غمرُ: مغمور غير معروف.
- حمَّ القضاء: نزل ووقع.
- حسبكَ: يكفيك.
- يتجافى: يتباعد.
- سوءة: عورةٌ
- يمنون: يذكرونه بنعمتهم عليه.
- قائم السيف: مقبضه.
- نصل السيف: شفرته.
- جدَّ جدُّههم: حان وقت الحقيقة عندهم.
- الضُمَّر الشُقر: الخيول المضمَّرة.
- انفسح: اتسع.
- التَّبر: الذهب.
- الصفرُ: النحاس.
- الصَّدر: السيادة.
- العلا: الرفعة والشرف.
إعراب أراك عصي الدمع
أراكَ عصيَّ الدّمعِ شيمتُك الصبرُ * أمَا للهوى نهيُ عليك ولا أمر
- أراك: فعل مضارع مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدّرة على الألف منع من ظهورها تعذّر النطق بها، والكاف ضمير متصل مبني على الفتحة في محل نصب مفعول به أول، والفاعل ضمير مستتر وجوبًا تقديره أنا.
- عصيّ: مفعول به ثانِ منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على آخره.
- الدمع: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة على آخره.
- شيمتُك: خبر مقدّم مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره، والكاف ضمير متصل مبني على الفتحة في محل جرّ بالإضافة.
- الصبر: مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمة الظاهرة على آخره.
- أمَا: الهمزة حرف استفهام لا محل له من الإعراب، وفائدته هنا التصديق، و(ما): حرف نفي مبني على السكون.
- للهوى: اللام حرف جر مبني على الكسرة الظاهرة على آخره، الهوى اسم مجرور وعلامة جره الكسرة المقدّرة على الألف منع من ظهورها تعذّر النطق بها، والجار والمجرور معلقان بخبر مقدم محذوف تقديره كائنٌ أو موجود.
- نهي: مبتدأ مؤخر مرفوع وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره.
- عليك: على حرف جر مبني على السكون، والكاف ضمير متصل مبني على الفتحة في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور معلّقان بالخبر المقّدم المحذوف.
- ولا: الواو حرف عطف مبني على الفتحة الظاهرة، لا حرف زائد لزيادة نفي (ما) مبني على السكون.
- أمر: اسم معطوف على (نهي) مرفوع مثله وعلامة رفعه الضمّة الظاهرة على آخره.
إعراب الجمل
أراكَ عصيَّ الدّمعِ شيمتُك الصبرُ * أمَا للهوى نهيُ عليك ولا أمرُ
- (أراك عصيّ الدمع): جملة ابتدائية لا محلّ لها في الإعراب.
- (شيمتك الصبر): جملة في محل نصب حال للضمير الكاف في (أراك).
- (أما للهوى نهي عليك ولا أمر): جملة استئنافية لا محلّ لها في الإعراب.
أغنية أراك عصي الدمع
لقد تهافت أهل الغناء على قصيدة أراك عصي الدمع لما تمتاز به بالسهولة النسبية، والوضوح في المعاني مقارنة بالقصائد العاطفية الأخرى في الشعر العربي التقليدي، وقامت بغنائها السيدة أم كلثوم ثلاث مرات وبألحان مختلفة.
فقد غنت أم كلثوم أول مرة هذه القصيدة عام 1926م بألحان عبده الحامولي، وفي منتصف الأربعينات غنتها بألحان الشيخ زكريا أحمد وكان لحنًا مختلفًا وجديدًا، وفي عام 1965م، غنت أم كلثوم هذه القصيدة بلحن رياض السنباطي، وهذا اللحن هو الأكثر شهرة بين جمهور أم كلثوم، وهذه هي كلمات الأغنية كما غنتها كوكب الشرق:
أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ * أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟
نعم أنا مشتاقٌ وعنديَ لوعة ٌ * ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ !
إذا الليلُ أضواني بسطتُ يدَ الهوى * وأذللتُ دمعاً منْ خلائقهُ الكبرُ
تَكادُ تُضِيءُ النّارُ بينَ جَوَانِحِ * يإذا هيَ أذْكَتْهَا الصّبَابَة ُ والفِكْرُ
معللتي بالوصلِ، والموتُ دونهُ * إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ!
وفيتُ، وفي بعضِ الوفاءِ مذلةٌ * لفاتنة ٍ في الحي شيمتها الغدرُ
تسائلني: منْ أنتَ ؟، وهي عليمةٌ * وَهَلْ بِفتى ً مِثْلي عَلى حَالِهِ نُكرُ؟
فقلتُ، كما شاءتْ، وشاءَ لها الهوى * قَتِيلُكِ، قالَتْ: أيّهُمْ؟ فهُمُ كُثرُ
وقلبتُ أمري لا أرى لي راحةً * إذا البَينُ أنْسَاني ألَحّ بيَ الهَجْرُ
فقالتْ: لقد أزرى بكَ الدهرُ بعدنا * فقلتُ: معاذَ اللهِ بلْ أنت لاِ الدهرُ
المصادر:
- أراك عصي الدمع – ويكيبيديا
- شرح قصيدة أراك عصي الدمع – بيت القصيد
- أراك عصي الدمع شيمتك الصبر – أبو فراس الحمداني – الديوان