نزلت التوبة أول ما نزلت في سيدنا آدم عليه السلام، وهو أول الأنبياء، وبالرغم من نبوته إلا أنه أخطأ وتاب، وقد أكد ديننا الحنيف في أكثر من موضع أن جميع ولد آدم وحتى قيام الساعة خطاؤون وبأن خيرهم من يعود تائبًا إلى ربه عز وجل. فسار الصحابة على هذا النهج، ولم يحيدوا عنه قيد أنملة، وكانت حياتهم دروسًا لنا نستلهم منها العبر.
وخير مثال على هذا ما حصل أيام غزوة تبوك؛ فإليك قصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك باختصار، حيث شاء الله أن تكون هذه الغزوة في وقت حر وزمن قحط؛ ليمتحن قلوب المؤمنين، فالطريق طويل شاق، والعدو قوي لا يستهان به.
فنادى منادي الجهاد عندما تناهى إلى مسامع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الروم يحشدون قواتهم على مشارف الشام لغزو المسلمين؛ فسارع الصحابة حينها لتلبية النداء وبدأوا يعدون العدة والعتاد لتجهيز جيش العسرة إلا ثلاثة من الصحابة رضوان الله عليهم استسلمت أنفسهم للراحة إلى جانب بعض المنافقين الذي كانوا يجهزون الأعذار الكاذبة.
أسماء الصحابة الثلاثة الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك
- أما أول هؤلاء الصحابة فكان مرارة بن الربيع الذي تخلف بسبب بستان له قد أينعت ثماره، فحدثته نفسه: كيف تترك الشجر والظل والثمر، وتخرج في شدة الحر؟
- أما هلال بن أمية فقد اجتمع أهله في المدينة، وأحب أن يأنس بقربهم، فتردد في الذهاب إلى أن فاته الغزو.
- في حين أن كعب بن مالك لم يمنعه عن الخروج والجهاد إلا التردد والتسويف، فكلما أراد أن يجهز نفسه للغزو ترده نفسه، إلى أن غادر الجيش ولم يعد باستطاعته اللحاق به.
تقرير حال الصحابة ثلاثة بعد انتهاء غزوة تبوك
وما إن انتهت الغزوة وعاد المسلمون حتى بدأ المنافقون بالدخول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقدموا له الأعذار، فيقبل منهم أعذارهم، ويستغفر لهم، ويوكل سرائرهم إلى الله.
وعندما سمع كعب بذلك بدأ يفكر في عذر يقدمه لرسول الله فلم يستطع، وكيف يكذب على نبي الهدى الصادق الأمين، ولكن لم يكن له من مهرب، فعزم على قول الصدق مهما كانت النتائج.
ودخل كعب بن مالك رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووصف لنا مشهد لقائه برسول الله بنفسه كما جاء في صحيح البخاري كتاب المغازي حديث رقم 4156.
فقال: “فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ «تَعَالَ». فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لي: «مَا خَلَّفَكَ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ». فَقُلْتُ: بَلَى، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنْ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عَفْوَ اللَّهِ، لاَ وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ”.
وعندما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لحق به بعض الرجال، وأخذوا يلوموه على فعلته، وقد كان بإمكانه أن يقول أية كذبة ويستغفر له الرسول وينتهي الأمر، إلى أن هم بالرجوع فسألهم: “هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلاَنِ قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ، فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ؛ فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفي” فلما سمع كعب باسم هذين الصحابيين وهما من الصحابة الذين شهدوا بدرًا تابع سيره ولم يلتفت.
تتفيذ العقوبة
وبدأ تنفيذ العقوبة عندما نهى رسول الله الصحابة رضوان الله عليهم عن الكلام مع المتخلفين الثلاثة فأخذ الناس يجتنبوهم ويتحاشون التعامل معهم.
واستمر الحال على ذلك مدة خمسين يومًا، التزم فيها كل من مرارة وهلال – رضوان الله عليهم – بالبكاء في منزلهما، أما كعب فكان يذهب لأداء الصلاة في المسجد ويسلم على رسول الله ويسارقه النظر ليرى هل رد عليه السلام أم لا.
وفي يوم من الأيام وبينما كعب يتجول في الأسواق إذا برسول من ملك الغساسنة في الشام يسأل عنه فلما وجده أعطاه كتاباً جاء فيه: “أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ.” فما كان من كعب إلا أن رمى به في التنور.
حتى إذا مضت أربعون ليلة إذا برسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي كعب فيقول له: “إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ،” فقال: “فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ، بَلِ اعْتَزِلْهَا وَلاَ تَقْرَبْهَا.”
وبلغ الأمر كلًا من صاحبيه، فاستأذنت امرأة هلال بن أمية رسول الله كي تبقى مع زوجها فهو شيخ كبير غير قادر على خدمة نفسه، فوافق رسول الله شريطة ألا يقربها، إلا أن كعب رفض أن يستأذن رسول الله في امرأته، وآثر الالتزام بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل زوجته لعند أهلها.
وأكمل عشر ليال أخرى على هذه الحال، حتى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ولما أتم خمسين ليلة جاءه الفرج من فوق سبع سماوات، ونزل فيه وفي أصحابه قرآنًا يتلى إلى يوم الدين فقال الله جل في علاه: “وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ” (التوبة 118).
وكان حينها كعب في بيته قد أنهكه الهجر، حين سمع صوتًا يقول: “يا كعب بن مالك أبشر” فعلم أنه تاب الله عليه، فخر ساجدًا لله، وأعطى من بشره ثوبه الوحيد الذي لا يملك غيره، وخرج مسرعًا للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا وصف كعب للقاء:
“وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ فَيَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا يُهَنُّونِي بِالتَّوْبَةِ، يَقُولُونَ: لِتَهْنِكَ تَوْبَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. قَالَ كَعْبٌ حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ جَالِسٌ حَوْلَهُ النَّاسُ فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلاَ أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ، قَالَ كَعْبٌ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ وَهْوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ». قَالَ: قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ «لاَ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ». وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ». قُلْتُ فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدِّثَ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ”
وبهذا نجا الثلاثة من عذاب يوم شديد، بسبب صدقهم والتزامهم بأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى، وإن كان عقاب الدنيا عسير فعذاب الآخرة في السعير.