البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

للأسف أصبحنا نجري وراء أي شيء جديد، فقط لكونه جديد وقليل جدًا منا من يفكر بشكل جاد في جدوى ذلك الشيء أو فائدته له، ومن ضمن تلك الأشياء التي نجري وراءها دون تفكير تلك الموضة المسماة البرمجة اللغوية العصبية.

والحقيقة أن تلك الضجة المصنوعة أو بالأحرى المصطنعة حول البرمجة اللغوية العصبية هي في الأساس بسبب التسويق الذكي لذلك التخصص وتلك الكتابات التي باتت مُنتشرة، فتجد الكتاب الفلاني عليه صورة لمؤلف مشهور ومكتوب على غلافه “الكتاب الأكثر مبيعًا” أو تجد جملة “بيعت منه مليون نسخة”.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

ما هي البرمجة اللغوية العصبية ابتداءً

المتخصصون في البرمجة اللغوية العصبية أو كما يسمونها اختصارًا “NLP neuro linguistic programming” يريدون محو تلك الخبرات والمعتقدات السلبية أو نقاط الضعف في البشر ويحاولون زرع أخرى أكثر توافقًا وذلك لكي يساعدونهم على النجاح والتفوق.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

فمثلًا لو أن شخصًا ما يود النجاح إلا أنه يعاني من بعض الأفكار والتي بدورها تمنعه من النجاح، فمثلًا هو يعتقد في نفسه أنه ضعيف، فيحاول المتخصصون فيها أن يمحون تلك الفكرة أو الاعتقاد ويستبدلوه باعتقاد آخر وهو أن ذلك الشخص قوي، وذلك عن طريق استخدام جمل كلامية معينة.

متى ظهرت البرمجة اللغوية العصبية تحديدًا

ظهرت البرمجة اللغوية العصبية عام 1973 على يد ريتشارد باندلر وجون جيندر، وهم بدورهم لم ينشئوا ذلك العلم من وحي خيالهم بل من خلال دراسات لاثنان من علماء اليهود، وهم نعوم تشيوميسكي وألفيرد كورزيسكي، وبعد عشرون عام تحديدًا عام 1993 تم إنشاء الاتحاد العالمي للبرمجة اللغوية العصبية.

ثم انتقل علم البرمجة اللغوية العصبية للعرب عام 1995 تقريبًا وتم إنشاء الاتحاد العربي للبرمجة اللغوية العصبية عام 2000 ولم يكون له صدى كبير مثل الاتحاد العالمي للبرمجة اللغوية العصبية.

والملفت للنظر أنه صاحب نشأة هذا التخصص إعلامًا قويًا وموجهًا للتسويق لتلك التجارب والمعلومات التي أسموها البرمجة اللغوية العصبية، بذلك ذاع صيتها جدًا في كل البلاد العربية منها والغربية، والبعض من العرب أدخل ذلك العلم لنا وعلى رأسهم الدكتور إبراهيم الفقي.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

هي مجرد موضة “تقليعة”

والتعريف الأدق لكلمة البرمجة اللغوية العصبية أنها موضة اجتاحت العالم كله وبالأخص العالم العربي، فهي فقط مجرد موضة ليس إلا، أما لو أردت أن تعرف عزيزي القارئ مصدر تلك الموضة فهي نتيجة تجميع معلومات مختلفة من فروع شتى منها فن الإقناع وفن الاتصال والتنمية البشرية والتأثير في الناس وعلم النفس.

وكما قال وود سمول رئيس الاتحاد العالمي للبرمجة اللغوية العصبية أنه ليس في البرمجة شيء جديد، فهي كما قلنا خليط لتخصصات وخبرات شتى أغلبها “غربية”، ولنا في ذلك وقفة في نهاية المقال عندما أطلعكم على تجربتي مع البرمجة اللغوية العصبية وكيف أنها قتلتنا.

والكارثة الأكبر في موضوع البرمجة اللغوية العصبية أنها في الأساس لما نشأت كان سبب ذلك الرغبة في علاج المرضى النفسيين، فلما صادفت نجاحًا إلى حد معقول مع المرضى النفسيين حاول البعض أن يطبق تلك القواعد على الأصحاء كي يوصلهم للنجاح، وأنا هنا أتساءل كيف لطريقة علاج أن تتحول لمنهج للأصحاء.

ما الذي دفعني للحديث عن البرمجة اللغوية العصبية

الانتشار الملفت للدورات الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية

والبعض للأسف يتصور أنه بناءً على انتشار البرمجة اللغوية العصبية فهي بذلك حققت نجاحًا كبيرًا وهذا خاطئ جدًا، فالبرمجة اللغوية العصبية حقيقة فعلًا أنها منتشرة ولكنها لا تؤثر كثيرًا، هي بضاعة مقدمة لتلك الطبقة الثرية التي في مقدورها أن تدفع المقابل المادي لتلك الدورات التدريبية.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

كما أن أكثر من يتهافتون على الحصول على تذاكر تلك الدورات هم للأسف ممن يحلمون بالنجاح وليس لديهم أي استعداد لأن يبذلوا أي مجهود يذكر، هم يحلمون بالنجاح السريع والسهل، لذلك تجد أغلب من يحضرون تلك الدورات أيضًا من فئة الشباب الجامعي قليل الخبرة والدراية بحقيقة الحياة والنجاح فيها.

كل كتابات البرمجة اللغوية العصبية مُترجمة

وهذا أكثر ما يقلقني فنحن كعرب لدينا مشكلة هي أن تلك الكتابات الأجنبية في الغالب لا تقرأ، فقام بعض الكتاب العرب بترجمة كتابات البرمجة اللغوية العصبية حتى تكون سائغة لنا كعرب، وإلى هنا أيضًا لا توجد مشكلة.

فالمشكلة الحقيقية ظهرت حينما حاول بعض الكتاب العرب وهم يترجمون تلك الكتابات أن يضع بعض الآيات القرآنية أو بعض الكلام من الإنجيل لكي يوهم القارئ العربي أن ذلك العلم هو خارج من بيئتنا والحقيقة غير ذلك، للأسف هم يلووا عنق الحقيقة لصالحهم بغرض الحصول على شهرة من وراءه.

والبعض منهم يتجاوز ويقول إنها “بضاعتنا ردت إلينا” أي أننا نتبنى تلك المناهج ليس لأنها تفيدنا على المستوى الشخصي بل لأنها نابعة من ديننا وثقافتنا، ولكي تستزيد عزيزي القارئ من تلك الفكرة أنصحك بمشاهدة تلك الحلقات الماتعة والهامة للكاتب السعودي عبد الله العجيري بعنوان خرافة السر من خلال المقاطع التالية.

https://youtu.be/9UqGELukgu0

لم تغير أحدًا على الإطلاق

والحقيقة أنه باعتبار أنها برمجة “لغوية” فهي تعتمد في المقام الأول على اللغة سواء كانت مكتوبة أو مسموعة أو ضمنية “الرسائل الموجودة في لغة الجسد”، والحقيقة أن الكلام لوحده لا يؤدي لنجاح يذكر فالنجاح يقاس بمقدار حبات العرق التي تسقط من جبين من يريد النجاح بصدق.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

وأحد أكبر المراكز الموثقة والرسمية وهو “مركز بحوث الجيش الأمريكي”، في أثناء الحرب الباردة عام 1988 قام أحد قادة الجيش الأمريكي فيه بطلب غريب من أحد المتخصصين في المركز وهو أن يدرس جدوى البرمجة اللغوية العصبية كأداة للتغير، كي يستخدمها مع جنوده لكي يقوي من عزيمتهم أمام عدوهم الروسي.

والمفاجأة أن مركز البحوث الخاص بالجيش الأمريكي أصدر تقريرًا مفاده أن تلك القواعد الموجودة في البرمجة اللغوية العصبية ليس لها فائدة تُذكر، والعجيب في تلك القصة أن ذلك التقرير خرج من أهم مؤسسة في أمريكا وفي نفس الوقت خرج علينا علم البرمجة اللغوية العصبية نفسه من أمريكا أيضًا.

هي أصلًا لغير الأسوياء

تلك القواعد الموجودة في البرمجة اللغوية العصبية في الأساس تم إنشاءها واكتشافها لكي تعالج المرضى النفسيين الذين يعانون من الفصام أو الاكتئاب الحاد، لذلك كيف لتلك القواعد أن تعين شخص ما على النجاح أو التفوق أو الوصول لأهدافه، وهذا أمر خطير جدًا.

أهم الانتقادات المُوجهة إلى البرمجة اللغوية العصبية

التشجيع على النجاح السريع وترك العمل الشاق

والغرب يسمون فكرة النجاح السريع quick fix، لذلك لماذا تبذل المجهود الوفير طالما أنك تستطيع ببعض تكتيكات الاسترخاء أو بعض الدورات التدريبية للبرمجة اللغوية العصبية أن تحقق ما تتمنى، وبالطبع هذا الكلام يروق لضعاف الهمم كثيرًا.

ومن ضمن الرغبة في النجاح السريع ما يسمونها القراءة السريعة أو القراءة التصويرية، فالبعض من المدربون العرب بدون ذكر أسماء يقدم دورات تدريبية بأموال طائلة لكي يعلم الناس كيف يقرأون الكتاب في دقيقة أو دقيقتين، وبالطبع هذا من الوهم ومن الرغبة الملحة في النجاح السريع.

تعامل الإنسان على أنه جهاز كمبيوتر

هم يعتبرون الإنسان مجرد هارد ديسك، به مجموعة من البيانات التي هي سبب تعاسته في الغالب، فيحاولون بالبرمجة اللغوية العصبية أن يحذفوا أو يقوموا بعملية فورمات للبيانات الموجودة ويضعون مكانها بيانات أخرى تؤدي للنجاح، وهذا تقليل من شأن الإنسان الذي هو بالطبع أكبر من مجرد آلة بها بينات.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

تُضخم الأنا لدينا

تلك البرامج في فحواها تضخيم للذات الإنسانية وفيها دعوى واضحة للكبر والغرور والاعتداد بالإمكانيات الشخصية، بغض النظر عن إرادة الله عز وجل وأنه هو فقط من يملك أمرك، وتجد أغلب من يحضرون تلك الدورات لا يتحدث كثيرًا عن قدرة الله بل يتحدث عن قدراته اللامحدودة كما يسميها البعض.

تُهمل المواهب الفردية تمامًا

أصحاب البرمجة اللغوية العصبية لديه عبارة شهيرة وهي “تستطيع أن تفعل أي شيء طالما فعله أشخاص آخرون من قبلك” وهذا بالطبع أمر كارثي فلماذا أفعل شيء مثلما فعله الآخرون، فأنا كشخص لي فرديتي وخصوصيتي ومواهبي التي ينبغي وأن أحترمها وأكتشفها وأوظفها.

لذلك فالبرمجة اللغوية العصبية تريد أن تجعل منا نسخ مكررة، فكما نجح نيوتن أو ديل كارنيجي فمن المنطقي أن ننجح مثله، فهم للأسف لا يعترفون بالمواهب بقدر ما يعترفون بالتقليد لنماذج بعينها.

تجعلنا أكثر مادية

فهم دومًا يتحدثون عن النجاح، ولكن الحقيقة أنهم يقصدون النجاح المادي أو بالأحرى المالي، وهذا أمر طبيعي للغاية فالبرمجة اللغوية العصبية هي نتاج حضارة مادية في أبشع صورها، لذلك هم يهملون الجوانب الأخرى المعنوية مثل الدين أو الوحي أو المشاعر الإنسانية.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

بها من الخرافات والوهم الكثير

لديهم كثير من الاعتقادات والتي هي في الحقيقة محض خرافات، هم يعتقدون أنك يمكن أن تفقد الوزن بمجرد أن تقول أو تتخيل أنك ستفقد وزنك، فقط ردد أو قف أمام مرآة وقل أنا سأخسر وزني بكل تأكيد، والبعض يقول أنك فقط بالاسترخاء والتفكير في النجاح تستطيع أن تحقق أعلى النجاحات.

تُهمل مشاعر الإنسان تمامًا

فبعض تلك البرامج والكتابات الخاصة بالبرمجة اللغوية العصبية تحاول زرع مشاعر الحب تجاه شخص بعينه، وبعض تلك الكورسات اسمها “قوة الحب والتسامح” تعلمك كيف تُحب كل الناس، والحقيقة أننا لا نحتاج لأن نحب كل الناس، وفي بعض الأحيان نحتاج لأن نكره عدو ما أو شخص ما.

تعودك الانبهار بالغرب

والحقيقة أن الغرب فعلًا ناجح جدًا، ويستحق منا أن ننبهر به ولكن مهم جدًا أن نعلم ما معيار النجاح أولًا هل النجاح هو الحصول على المال الوفير، الغرب للأسف حضارته كلها مادية فقط بعيدة كل البعد عن المشاعر والوحي.

وفي النهاية ما بدائل البرمجة اللغوية العصبية

بذل المجهود

والحقيقة أن المسافة بينك وبين النجاح في تحقيق أهدافك هي مسافة تقاس بالجد والاجتهاد والتعب والتفكير والسهر لأيام طويلة وأنت تعصر ذهنك كي تصل لهدفك، وليس بالاسترخاء أو مجرد الكلام كما يزعم أصحاب البرمجة.

البرمجة اللغوية العصبية دمرتنا

ادرس تلك العلوم فهي الأنفع لك

هناك الكثير من العلوم الهامة جدًا والتي نستطيع أن نطلق عليها لفظة علم، منها علم التخطيط الاستراتيجي وعلم إدارة الوقت وعلم الاتصال والتواصل، وعلم آخر مثل الموارد البشرية كلها علوم راسخة فيها من الدراسات الثابتة الكثير وستنفعك كثيرًا وستغنيك عن أوهام البرمجة اللغوية العصبية.

شارك المعلومة؛ فالدال على الخير كفاعله